حديث الأربعاء مع سعدي يوسف |
"محاولات في موضوعة المثقف التابع" (4) آليّاتُ انمساخِ المثقف الحُرّ، مثقفاً تابعاً قدمت العقودُ الخمسةُ السابقةُ ، مادةً ملموسةً ، يمكنُ الاستنادُ إليها ، باطمئنانٍ ، في محاولة الإحاطةِ بآليّات تحوّلِ المثقف الحر إلى مثقف تابعٍ، مع أن هذه الآليات هي من التنوعِ والتعدد ، بحيث تبدو متناثرةً ، لا يجمع بينها سوى ما يبدو مصادفةً محضاً. أقول: هذه الآليات تبدو متناثرةً، غير أن خيطاً خفيّاً ينتظمها جميعاً ، خيطاً يؤدي في نهاية الأمر إلى وضع حدٍّ لحرية المثقف واستقلاليته ، ومن ثَمّ إلى الإجهاز على إبداعه. بالإمكان تسميةُ هذا الخيطِ الخفيّ، بالغِ الخفاءِ لدقّته ، بالاحتواء التحكّميّ. الإحتواء، بالمطلق، قد لا يكون تحكّميّاً. هنالك من يهَبُ قضيةً نفسَه ونفيسَه ، فتحتويه القضيةُ ، لكنها لاتتحكمُ به . بل قد يكون ذلك المرء هو المتحكم بالقضية في طبيعة تعامله معها، ومعالجتها، وتقديمها إلى الآخرين. وتُمْكِنُ الإشارةُ هنا إلى أمثال أندرَيه مالرو ، وبابلو نيرودا ، وهادي العلويّ. أي أن الاحتواءَ هنا ، تحوّلَ ، إلى نوعٍ من الاختيارِ. الإنسانُ ، هو ، يحتوي القضيةَ. القضيةُ، هنا، إذاً، لا تحتوي الإنسانَ. * لكني، مَعْنيٌّ في هذا المسعى، بالاحتواءِ السلبيّ، احتواءِ التحكُّمِ بالمثقفِ، والإجهازِ اللاحقِ عليه. وتَتعيّنُ عليّ، أوّلاً، الإشارةُ إلى الدِّمَنِ الحاضنةِ الاحتواءَ السلبيَّ ، والتي أراها أربعاً رئيسةً: 1- الحزب المعارِض 2- الحزب الحاكم 3- المؤسسة الرسمية 4- الأجهزة الأجنبية * الحزبُ المعارِضُ، في تجلّــيهِ العمليّ، يعتبرُ نفسه حزباً حاكماً بالانتظار ، حكومةَ ظِلٍّ ، سواءٌ كان هذا الظل عالياً أو قميئاً. هذا الحزبُ يهتمُّ باجتذاب مثقفين إليه، أعضاءَ أو مؤازرينَ ، لغايةٍ أساسٍ هي إعلاءُ شأنِ الحزبِ ومستوى عـضويّته. لكن الحزب هو في المعارضةِ، فهو بحاجةٍ إلى الأخذ والردّ، والمقالةِ ، والتظاهرة الفنية، ومن هنا جاءَ الاعتزاز الظاهريُّ بمثقفيه المنضوين تحت رايته. لكن هؤلاء المثقفين المناضلين، سرعانَ ما يتمُّ التخلي عنهم ، والتنكيل بهم، عند أيّ منعطفٍ سياسيّ يفرضُ نوعاً من صفقةٍ أو تواطؤٍ. لقد تَمَّ الاحتواءُ، في احتفاءٍ إيجابيّ، لينتهي إلى احتواءٍ سلبيّ يُجْهِزُ على فاعلية المثقفِ ، ويلقي به في دوّامة العراءِ. إذ أن هذا المثقف ، قد كان كرّسَ نشاطه وإبداعه لخدمةِ ما ظنّه سبيلاً إلى الانعتاق والتقدمِ ، فإذا به يرى السبيلَ مغلَقاً ، ليس أمامه فقط ، بل أمامَ ما كان يحلم به لصالح الناسِ ، ولقرّائه هو... هكذا يبدأ الانكفاء الموجِعُ. * الحزبُ الحاكمُ ، قد كان له منذ أمدٍ بعيدٍ مثقفوه ، الذين هم على مسافاتٍ متفاوتةٍ منه ، فيها القريبةُ والمتوسطةُ والبعيدةُ. المتحكِّمُ في تعيين المسافةِ ، هو مدى الطاعة ، والاستعداد لتقديم الخدمات المطلوبة ، ومن بينها محاربة الخصوم المحليين عادةً. وبقدرِ استمرارِ الحزب الحاكم ، حاكماً ، تزدادُ شهيّتُه إلى الطاعة والخدمات. وهو يقدم المغرياتِ لمثقفيه، لكنه يبرزُ هِراوتَه واضحةً، أكثرَ فأكثرَ. ومع الأيام ، و الحزبُ الحاكمُ حاكمٌ ، تهتريءُ ، أكثرَ فأكثرَ ، العلاقةُ بين الحزب ومثقفيه ، فيتعرّض بعضُهم لعقوبات قاسية ، قد يكون الموت من بينها ، وتمسي الكتابةُ الحقيقيةُ ذكرى بعيدةً ، منسيةً أيضاً. المقرّبون المنعَّمون، قد تناسَوا أنهم كانوا ذوي علاقةٍ بالإبداع ، واطمأنّوا إلى ما هم فيه من نُعمى وطراوةِ عيشٍ ومنصب... والمبعَدون الخائفون، صاروا أشدّ خوفاً لقد أطبقَ الصمتُ. والاحتواءُ السلبيُّ أخذ مفعوله. * المؤسسةُ الرسمية المحليّة ، على اختلاف الزمان ، والعهودِ ، ظلّت تتمتعُ باستقرارٍ معيّنٍ ، كان مظلّةً ما لمنتسبيها الذين عرفوا بخبرتهم الطويلة ، مواطئ الخطر والحذر ، فوقّعوا خُطاهم على مقتضيات تلك الخبرة ، وظلوا يمارسون نوعاً من النشاط الإبداعيّ المستمرّ. إلاّ أن هذه المؤسسة الرسمية ، بتقاليد ثباتها ، وحماية منتسبيها ، تعرّضتْ لزلازلَ عنيفةٍ أطاحتْ خيمةَ سلامِها ، وطوّحتْ بتقاليدِها ذات الرعاية . إنها زلازلُ الانقلابات والتقلُّباتِ السياسية التي رأت دوماً أن الأمّةَ اللاحقة تجبُّ الأمّةَ السابقة جَبّـاً. هكذا وجد منتسبو تلك المؤسسة أنهم شأن الآخرين ، في عراءٍ تعصفُ به رياحٌ قاسيةٌ ، في مفازة الذئاب ، فألفَوا أنفسَهم في غير ما ألِفُوا . إنهم الآنَ في ممتَحَنِ حكومة الظل ، والحكومة ، تماماً مثل الآخرين. الاحتواءُ السلبيُّ هنا ، غيرُ مباشِرٍ ، لكنّ النتيجةَ واحدةٌ ، هي إشاعةُ الصمتِ. * الأجهزةُ الأجنبيةُ ذاتُ العلاقةِ بالشأن العراقيّ ، كان لها دورٌ تُمْكِنُ تسميتُهُ بالحاسمِ ، في الإجهازِ على ما تبَقّى من حياةٍ في الثقافة الوطنية بعامّـة. ومثل الحزب الحاكم ، عمدتْ هذه الأجهزة إلى شراء المثقفين العراقيين من مبدعين وعلماء وذوي خبرة ، بالغالي حيناً ، وبالبخس في أكثر الأحيان. بدأ ذلك منذ ، أوائل التسعينيات ، حين استقرَّ رأي تلك الأجهزة نهائياً على احتلال العراق واستعماره استعماراً تقليدياً يعود إلى القرن التاسع عشــر. المثقفون المشترَون ، نبحوا ، عالياً ، أوّل الأمر ، في إطراء الاحتلال ، ثم صمتوا صمت القبور... أمّا الاحتلالُ ، بعد أن وطّدَ سيطرته ، معتمداً على وكلائه من المتديّنين وعنصريي القوميات غير العربية ، فقد توسّعَ في عمليات الشــراء ، لكن هذا التوسّعَ كان مصحوباً بحملةٍ مستمرةٍ من الاغتيالات التي تهدف إلى اجتثاث ما تبقّى من النخبة الثقافية العراقية ، تمهيداً لأن يَستبدل بها نخبةً جديدةً من إعداده وتدريبه ، نخبةً في طور التكوين ، تدين له بالولاء ، وتعتمده حياةً ، وطوقَ نجاةٍ إن لزمَ الأمرُ. إنه الاحتواء الأعظمُ الذي ما مثله احتواء! * قد يكون العراقُ ، البلدَ الأقسى تجربةً في انهيار الثقافة الوطنية ، بين البلاد العربية. هــذه الفداحة يتحمّلُ وِزْرَها العراقيون ، ممثَّلين في طلائـعهم التي خانتهم ، ونكّلتْ بهم ، ثم باعت بلـدهم في سوق النخاسة ، بدمٍ لا مثيل لبرودته. ويتحمّل وِزْرَها ، عالَمٌ متمدنٌ ، بأكمله. عالَمٌ ظلَّ ، حتى اليوم ، يرسل جنودَه من الأماكن القصية ، ليقتل أبناءَ شعبٍ فقيرٍ وبناتِه. ماذا بمقدورنا أن نفعل ؟ بمقدورنا الكثير: أن نقول ... لا الكبرى. لا ... التي نسينا أن نقولها منذ عقود!
لندن 17.01.2008
|