"محاولات في موضوعة المثقف التابع" طباعة

(1)

نظام المثقف التابع وعلاقتُه بتأييد الاحتلال

يبدو لي أن نظام المثقف التابع ، كان هو النظام الطبيعيّ الذي حدّدَ العلاقة بين المثقف والحاكم: سواءٌ كان ذلك الحاكمُ  نبيلاً إقطاعياً ، أو أمير مقاطعة، دهقاناً، خاناً، ملكاً ،خليفةً ، قائد جيش أو جيوشٍ، كنيسةً أو كنيساً،

رئيسَ حرفةٍ ما،  عميدَ مؤسسةٍ للتعليم ... الخ.

بالإمكان القولُ إن تبعية المثقف هذه أمرٌ منطقيّ، باعتبار أن المتبوع هو صاحبُ المالِ والمـآلِ، هو المرجعية الأولى والأخيرة في التراتبية الاجتماعية / الاقتصادية ، وباعتبار أن ذلك المجتمع القديم لم يفرزْ بعدُ من التفاوت الطبقيّ وعلائق الإنتاج ما يتيح لصنوفٍ شتّى ( بينهم  المثقف ) قدراً من الاستقلالية ، والموقف المختلف ولو جزئياً.

لكننا شهدنا، مع ذلك، ضيقَ المثقف والفنان، ومحاولة كسر الطوق: الهروب من الملك إلى الأمير . الهروب من الكنيسة إلى الملك . الهروب من البلد إلى مستعمراته في ما وراء البحار ، وما إلى ذلك من مظاهر التملمُل . وربما نال المتمردَ أذىً ما بعده من أذى : سجناً وتعذيباً ، و صلباً أو حرقاً  ( أو بالعقوبتَين في آنٍ )

ولدينا من الأمثلة ما يكفي : بشّار بن بُرْدٍ ، وغاليلو.

*

يُعتبَر العراق من المجتمعات الساكنة ، إنه أقرب إلى المجتمعات التي وصفَها ماركس ، بأنها مائيّــةٌ.

بتعبير آخر ،  أرى أن تبلور الطبقات الاجتماعية في العراق لا يزال في الطور الأوّليّ. ليس من فرق واضحٍ ، مثلاً ، بين

البروليتاريا ، والبروليتاريا الرثّة . وغالباً ما تلبس البروليتاريا لبوسَ البروليتاريا الرثّة ، كما نشهد الآن بكل وضوحٍ.

الطبقة الوسطى لم تترسّخْ ، البتةَ، لأسبابٍ مختلفة.  و الأشكال الاجتماعية المتخلفة الموروثة منذ قرون لاتزال فعّالةً:

بقايا العقلية الإقطاعية، واندفاع العلائق العشائرية التي جرت محاولة إلغائها تشريعاً، منذ  نصف قرنٍ أو يكاد. إضافةً إلى هذا كله نجدُ أن التفسير الخرافيّ والغيبـيّ للكون والإنسان، مع ما يستلزمه من ممارسات وطقوس،  هو السائد المتّبَع ، بل هو المتسلط الأكبر.

الأرستقراطية البغدادية القديمة، بقايا  أرستقراطية الحاضرة التاريخية في الإمبراطورية العثمانية،  تلاشتْ مع زحف الريف والأطراف على المدينة الجنينية، فانتهت هذه الأرستقراطية مع انتهاء المدينة في العراق الحديث.

العراق بلدٌ بلا مدُنٍ.

إنها الطامّة الكبرى!

*

منذ تأسيس الدولة العراقية في العشرينيات ،  شهدْنا اصطفاف المثقف إلى جانب الحاكم ، حتى وإن كان هذا الحاكم أجنبياً ، جِيءَ به  مع جنود المستعمِر، وبعدَ القمع الدمويّ بالنار والغاز السامّ  لثورة شعب.

الحاكمُ هو بيتُ المالِ، وهو المآلُ في الوظيفِ العامّ.

حدثتْ استثناءات:

محمد باقر الشبيبي

محمد رضا الشبيبي

علي الشرقي

الرصافي

الجواهري...

مِن هؤلاء  مَن توقّفَ في منتصف الطريق.

الرصافي مضى في الطريق إلى آخره المأساويّ ، وقضى في الفلوجة مبعَدا.

وكذلك فعل الجواهريّ ، ليُدفَنَ مع زوجته، في مقبرة الغرباء ، بالسيدة زينب ، من أرباضِ دمشق.

هل اختارَ سركون بولص هذا الطريقَ ، بلا ادّعاءٍ ؟

*

لم يكن الحاكم هو المتبوع الوحيد.

فالأحزاب العراقيةُ  يمكنُ إدراجُها في قائمةِ المتبوعِ الطويلة.

ومن المؤلم أن هذه الأحزاب  تعاملت مع المثقف والثقافة تعاملاً براغماتياً خالصاً ، تعاملاً ألغى استقلاليةَ المثقف وتأثيرَه في المجتمع العراقيّ.

لجأَ المثقفُ إلى هذه الأحزاب  ، هرباً من السلطة ، ليجد نفسه أمام سلطةٍ  أشدّ  عسفاً  من الحكّام الفعليين.

وحين صار الحزب حاكماً مطلقاً بالفعل ( البعث مثلاً ) ، أُلحِقَت الثقافةُ به إلحاقاً ، باعتباره قائدَ المجتمع أيضاً ،  فقُضِيَ تماماً على أي إمكانٍ  لاستقلالية المثقف ،  ونُصِّبَ أمّيّونَ متحمسون قادةً لتنظيماتٍ ومنظماتٍ " ثقافية. "

مثالُ حزب البعث  يمكن تعميمُه على الأحزاب الأخرى بلا استثناء.

المثقف يتبع مصدرَ رزقه.

وطُبِّقَ بصورةٍ فاجعةٍ المَـثَلُ القائلُ : جَوِّعْ كلبَكَ يتبعْكَ.

كان الشراء يتمّ بثمنٍ بخسٍ  ، نكايةً وتشفّياً.

*

وأخيراً ، جاء الاحتلال  ؛ ودخلَ مع دباباته وطائرات نقلِهِ  مثقفون عضويّون ،  هم الأدلاّءُ  المتدرّبون المجرَّبون.

كانت مهمّتهم الأساسُ تمهيدَ طريقِ التعاون بين سلطة الاحتلال والجسم الثقافي العراقيّ المهتريء المنهَك ، الضامر

جوعاً ، والحائرِ في ما رأى من عجبٍ وضنَكٍ طوالَ عقودٍ...

منظمةٌ ذاتُ تاريخٍ وطنيّ عريق، مثل " اتحاد الأدباء "، تنضمُّ إلى هيئةٍ خارج العراق، يديرُها شخصٌ عيّنه بول بريمَر  رئيساً  لـما سُمِّيَ  المجلس الأعلى للثقافة العراقية"."

"اتحاد الأدباء" ذاتُهُ يتولّى تقديم استماراتٍ يكون أصحابُها على قوائم الدفع لدى المؤسسة المحلية الكبرى لسلطة الاحتلال ، مؤسسة المؤسسات في " منظمات المجتمع المدني " التي تعمل على تعبئة المثقفين والناس، لصالح الاحتلال، و تأطيرهم في خانة الراضين به، وبحكومته العميلة ، تحت اسم" صندوق التنمية الثقافية"

رئيس " اتحاد الأدباء "  يكتب أطول نصٍّ في حياته  ، عن ضرورة التعاون مع الاحتلال وسلطته المحلية العميلة.

ويُسَــلِّمُ دروعاً إلى عملاءَ نُصِّبوا  وزراءَ.

البطالة ، بطالة المثقفين ، شاملةٌ.

إن لم تكن أيها المثقف تابعاً، متَّ جوعاً.

فإنْ صرتَ تابعاً ، تولاّكَ  الـخَـرَسُ.

لكَ أن تكتب، مؤيداً ، عارفاً بالخطوط الـحُمرِ، تسمّي الاحتلالَ تحريراً  ، و تسمّي سلطةَ عملائه حكومةً عراقيةً.

إنْ خالفتَ  أتاك ما أتى آخَرين من قبلِكَ : طلقةٌ واحدةٌ في مؤخرة الرأس.

طلقةٌ واحدةٌ في مؤخرة الرأس ، ها هي ذي الرقابة الجديدة

كان نبيل ياسين في منتهى البراءة حين دافع في " بيت الشِعر " ، في نيويورك ، عن الوضع الحاليّ قائلاً : ليس في العراق رقابةٌ!

*

الزلزال الأعظم.

الزلزال المستمرّ منذ 2003

الزلزال الذي يهدد بحربٍ عالميةٍ ثالثةٍ...

هذا الزلزال لم يهزّ المثقف العراقيّ التابع.

يا جبل، ما تهزّك ريح!

*

عقودُ التدمير الذاتي الثلاثة ، وما تلاها من احتلالٍ شرسٍ أجهَزَ على ما تبَقّى...

هذا كله، أزالَ ، تماماً ، البِنْـيةَ الثقافية.

لم يَعُدْ في العراق ثقافةٌ وطنيةٌ يُعتَــدُّ  بها.

ثمّتَ أنقاضٌ ونقائض فقط.

*

هل من بديلٍ ؟

بالتأكيد...

البديلُ هو في ثقافة المقاومة ، ثقافة تحريرِ التابعِ!

 

04.11.2012