تنفيذُ إعدامٍ وهمىٍ... طباعة

سعدي يوسف
ترجمة خالد مطوّع

تمرُّ على المرءِ آلافُ الآلافِ من الأحداثِ، فى هذه الحياة الملتزّةِ المرهِقة فى كثيرِها، الطليقةِ الـمُـسعِدةِ فى قليلِها.

ومن طبيعة خَلْقِ ابنِ آدمَ أنّ قابليّة ذهنِه على الخزينِ محدودةٌ، ومحدّدة بحجمٍ معيّنٍ، لذا يتناسى الواحدُ منّا الكثيرَ من الوقائعِ، ثم ينسى ما تناساه، تماماً.

لكنّ ثمّتَ ما لا يُنسى:

وجه الأمّ.

اسم الوليد الأوّل.

لون عينَى الحبيبة الأولى.

إلخ.

وثمّتَ ما لا يُنسى أيضاً، لكن من جهة القمر المعتِمة.

مثلاً :

تنفيذ إعدامٍ وهميّ.

*

فى شهر شباط ( فبراير) من العام 1963، كنت فى البصرةِ، قادماً للتوّ من بغداد.

كانت البصرة تحت سيطرة الانقلابيّين البعثيّين، والميليشيا التى كانت تُدْعى ( الحرس القوميّ ) وهى مسلّحةٌ بخليط من غدّارات بور سعيد المصرية، واسْتِنّ البريطانية، وسواهما من سلاحٍ فرديٍّ خفيف .

هذه الميليشيا نصبتْ سيطراتِها فى ساحات المدينة وأحيائها وأسواقِها، وكانت طليقةَ اليدِ فى اعتقال الناسِ

وتعذيبِهم، بل حتى قتلِهم مثل الكلابِ السائبة .

*

قبضَ ( الحرسُ القوميّ ) عليّ، وجاؤوا بى إلى مقرِّهم الرئيس، القريب من شط العرب، فى مبنى ( جمعية الاقتصاديّين )، وهى جمعيةٌ مهنيّةٌ كانت، قبل الانقلاب البعثيّ بيومٍ واحدٍ، تحت إدارة الشيوعيّين من أهل البصرة .

كانت جمعية الاقتصاديّين، تكتظُّ بالمسلّحين البعثيّين الفتيان، وهم يحملون غدّاراتٍ قد تنطلقُ من تلقاءِ نفسِها، بعد أن نزعوا الأمانَ...

وتكتظُّ أيضاً بالمعتقَلين الذين كُدِّسوا فى قاعةٍ ليست بعيدةً عن الشارع والنهر.

*

فى اليوم التالى، نُقِلْتُ إلى غُريفةٍ ضيّقة، فيها كرسيّ خيزران .

فى الليلِ جاءنى حارسٌ فتى.

قال لى : سأُبقى البابَ مفتوحاً. لن أغلقَه. أمامكَ الممرّ، وهو يؤدى إلى الشارع. قد تفكِّرُ فى الهرب .

حاوِلْ، لكنى سأطلقُ النارَ عليك...

*

بِتُّ ليلتى فى تلك الغُرَيفةِ .

كنت مرهَقاً، لذا كان نومى عميقاً .

*

فى اليوم التالي، ومع الضحى العالي ، جاء آمرُ المقرّ، أتذكّرُ أن اسمه فتحى، وكان له محلٌّ لبيع الأحذية فى سوق الهنود بالبصرة . كان فتحى يحمل غدّارة بور سعيد، وهو فى تمام أناقتِه .

أوثقَ فتحى يدَيّ إلى خلف الكرسيّ .

ثم عصبَ عينيّ .

سقطتْ ساعتى اليدوية على الأرض، وسمعتُ صوتَ ارتطامِها .

أمرَ بأن يُغلَقَ البابُ . سمعتُ البابَ يُغلَقُ.

قال بهدوءٍ : سوف نعدمُكَ !

ألديكَ ما تقوله لنا ؟

كنتُ أضعفَ من أن أجيبَ .

قال : إذاً... ليس لديك ما تقوله لنا !

ثم سمعتُ تحريكَ أقسامِ الغدّارةِ .

انطلقَ الرصاص .

صلية واحدة .

*

لم أمُتْ .

ومثل ما قال بدر شاكر السياب فى قصيدته الشهيرة “ المسيح بعد الصلب :

إذاً

فأنا لم أمُتْ...

*

قبل أيامٍ قرأتُ لصديقى واصف شنّون ( هو فى أستراليا الآن ) سرداً لمعاناته، بعد انتفاضة 1991 فى الجنوب العراقيّ، حين كان مع المعتقَلين فى معسكرٍ تتولّى إدارته منظمة “ مجاهدى خَلْق “، وكيف كانوا

يغَطّون رؤوسَ المعتقَلين بأكياسٍ سودٍ ليعدموهم .

كيف غطَّوا رأسه أكثرَ من مرّةٍ فى تمثيلية إعدامٍ وهميّ .

واصف شنّون فى أستراليا منذ نحو عشرين عاماً، لكنه لم ينسَ ما مرَّ به .

إذاً، ثمّتَ ما لا يُنسى من الجانب المظلم من القمر !

 

لندن 25.12.2015