سائقُ دبّابةٍ شديدُ السُّمْرةِ |
سعدي يوسف كأنْ لم يكُنْ بين الحُجونِ إلى الصفا أنيسٌ ، ولم يسمُرْ بمكّةَ سامرُ بَلى ، نحن كنّا اهلَها ، فأبادَنا صُروفُ الليالي ، والجدودُ العواثرُ * السجونُ العراقية التي كنتُ نزيلَها هي : سجن بغداد المركزيّ سجن البصرة المركزيّ سجن بعقوبة سجن نقرة السلمان وأنا لا أذكرُ ، الآن ، مراكزَ التوقيف ، وشرطة التسفيرات ... إلخ ، خشيةَ الملل . على أي حالٍ : أردتُ القولَ إن سجن نقرة السلمان كان خيراً من السجون الأخرى. إنه بمنأى عن الناس . الذئاب ، وحدَها ، هي التي تجوسُ . جاءتني المرحومة ، والدتي ، حفصة ، زائرةً ، متحمِّلةً طول الطريق ، من البصرة إلى النقرة ، تحملُ معها قالب ثلجٍ ، ملفوفاً بالجونيّة ، وفي غرفة المواجَهة ، فتحت الجونيّة لترى قالب الثلج ماءً ! لكني أعود لأقول إن " النقرة " كان خيراً من سواه : السجن يعتمد مبدأ القاعات ، وهي مستطيلة ، مفتوحة على الساحة ، بلا أبواب . والحقّ أن القاعات كانت مَهاجعَ . نفترشُ بطّانيّاتٍ ، ونتغطّى بأخرى ! لكن الفضيلة العظمى للسجن كانت ساحته المفتوحة ، التي تبلغ ، في تقديري ، مساحةَ كيلومتر مربّع. في الساحة كان التمشِّي طليقاً ، واللقاءُ حُرّاً . والناس تعرف أن الهروب مستحيل . حتى لو هربَ أحدٌ ( كما حصلَ مرةً ) فسوف تمصمصُ الذئابُ عظامه ! * من المفيد أن أذكر أن هذا السجن بناه الجنرال غْلوبْ باشا ( أبو حنَيك ) ليردّ غارات الوهّابيّين! * بُعَيدَ 1963 شهدَ " نقرة السلمان " موسماً عجَباً ! جيء بالعسكريّين من السجن رقم واحد بمعسكر الرشيد ، بعد أن نجَوا ، بمعجزة ، هي من مأثرة سائق القطار ، قطار الموت ... * على أي حال ! في أحد الأيام ، وأنا أتمشّى متمهلاً في الساحة ، تقدّمَ مني شابٌّ من العسكريّين الذين قَدِموا في " قطار الموت " ... كان يريد التعرُّفَ عليّ . كان شابّاً شديدَ السُّمرة ، يكاد يكون في سيماه ، زنجيّاً . سألتُه : لِمَ جاؤوا بك هنا ؟ قال : كنت سائقَ دبّابةِ . استفسرتُ : لكن هذا ليس كافياً ليؤتى بك إلى هنا ... قال : كنت شيوعيّاً ! استفسرتُ ثانيةً : هل قاومتَ الإنقلابيّين ؟ أجاب : لا ... بل كنتُ سائق إحدى الدبّابات التي اقتحمت وزارة الدفاع ! قلتُ مستنكراً : كيف فعلتَ ذلك وأنت شيوعيٌّ ؟ أجاب بهدوء : كان الضابط في بُرج الدبابة ، مصوِّباً مسدّسَه إلى رأسي !
لندن في 22.12.2018
|