عن الهجرة والــمُـهاجِر ... طباعة

سعدي يوسف

يقول محمد مهدي الجواهريّ :

في الجاهليّةِ أذْواءٌ ، وفي غدِها

مهاجرون على الوثقى وأنصارُ

أستعيدُ  هذا البيتَ لأشيرَ  إلى أنّ للهجرة معنىً ، وإلى أن هذا المعنى ذو عُمقٍ أخلاقيّ ، عمقٍ غيرُ متّصِلٍ بالعيش وأسبابِه .

هؤلاء القومُ الذين يستدعيهم الجواهريُّ ، كانوا في الجاهليّة أذْواءَ ( جمع ذو ) ، إشارةً إلى أنهم كانوا ملوكاً أو كالملوكِ ، منزلةً .

هؤلاء الناس ، هاجَروا ، في سبيل عقيدةٍ ومبدأ ( مهاجرون على الوثقى ) . إنهم مهاجرون وأنصارٌ .

وثمّتَ مراتبُ المتصوِّفة الثلاثُ :

التحَلِّي

والتخَلِّي

والتجلِّي .

المرتبة الثانية هي الهجرةُ العميقةُ ، التي تجعل المرءَ مختلفاً ، وتكوِّنُ البَرزخَ الذي يفْصِلُ ويصِلُ .

الانفصال عن الدَّهْماء ، بُغْيةَ الوصول إلى العلاء ، حيث الزجاجةُ التي كاد زيتُها يضيءُ . نورٌ على نورٍ .

*

أردتُ بهذه  " الديباجة " المديدةِ شيئاًما ، أن أعقدَ مقارنةً بسيطةً عجلى ، بين الهجرةِ على الوثقى التي مارسَها أسلافُنا الكرام ، منذ القرن الأول الهجري ، حتى القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديّينِ  ، وبين ما نشهدُه في أيّامِنا هذه  من تحوُّلٍ قاسٍ في مفهوم الهجرة .

كان المهاجِرُ الأوّلُ ضد الأذى وجاني الأذى في بلده ، وقد اختارَ شظفَ الهجرةِ وخطرَها ، كي يعملَ على إزاحةِ الأذى وجانِـيه ، في مَرْبَعِه الأصيل ، عن هذا المرْبَعِ .

وليس بالبعيدِ عنا تاريخ الكتّابِ والفنّانين ، الألمان والأميركيّين والروس وسواهم ، ممّن وجدوا في المَهجرِ مطْمأنّاً ، وموئلاً ، فيه الحريّةُ  ، وممارسة الحرية ، إبداعاً .

*

لكني ، أنا المُوَكَّلَ بفضاءِ الله أذرعُهُ ، أشهَدُ هذه الأيّامَ ، في الـمَهاجِرِ ، ما يُثِيرُ في نفسي غضباًما .

ولا بُدّ لي من احترازٍ هنا ، إذ أن كلامي لايعني ، بأيّ حالٍ ، الملايينَ ممّن أرغمتْهم الحروبُ على النزوح من بلدانهم ومَرابِعهم .

*

أنا أعني ، بالتحديد ، أولئكَ المثقفين والمتثاقفين ، الذين يتصرّفون في الـمَهاجِرِ ، تصَرُّفَ الوكلاءِ عن أنظمةِ الطغيان والفساد والقتلِ ، في بلدانهم التي غادَروها مُهاجِرين .

هؤلاء ، يكوِّنون جمعيّاتٍ وتجمُّعاتٍ تنتفعُ من هِباتِ البلدِ الـمُضِيفِ ، ليقطعوا الطريقَ على مُهاجِري الوثقى.

وهم مرتبطون بسفارات الظلمِ والظلام ، يزوِّدونَها المعلومةَ ، ويقدِّمون لها العونَ في الصلةِ والإتّصال ، وإقامةِ الأنشطة ، وأعني أنشطة ملحقيّات الثقافة والأمن  والتجارة .

هؤلاء المثقفون والمتثاقفون ، لا يمين لديهم ، ولا يسار .

أعني أن اليساريّ فيهم قد يكون أشدَّ ارتباطاً بالنظام الظالم من اليمينيّ . اليساريّ أخطرُ لأنه أعرَفُ ، ولأن الناس قد يثقون به ، أكثرَ ، بسببٍ من ماضٍ كان مَجيداً يوماًما .

*

في زيارةٍ لي ، قبل أعوامٍ ، لعاصمةٍ أوربيّةٍ شهيرةٍ بفنِّها وفنّانيها ، اتّصلْتُ هاتفيّاً برسّـــــامةٍ عراقيّةٍ كانت شيوعـــيّةً ، أستفسِرُ عن أحوالِها ، وعن أحوالِ شقيقِها الرسّام الذي كان يعاني ظروفاً صحيّةً صعبةً في بلدٍ بشماليّ أوربا  ، كما أبدَيتُ رغبتي في لقائها لأني مسافرٌ في الغَداة .

قالت لي : آسفةٌ جداً . صحّتي ليست على ما يُرام اليومَ .

أخبرتُ صديقاً لي هناك ، الخبرَ .

قال : لكنها كانت في السفارة ، لتهيئة معرضٍ تشكيليّ !

 

لندن 23.07.2016