في مديح الخسارة |
سعدي يوسف أن تقرأَ " إنيادا " فِرجيل ، شاعرِ روما ، ( 70 ق.م -19ق.م ) ، وأنت في هدأة العُمرِ ،نعمةٌ كبرى ؛ ومَرَدُّ تلك النعمةِ إلى إنعامِ النظرِ الذي أتاحتْهُ لك هدأةُ العمرِ ، وإلى ما كسبتَه من قدرةٍ على الحكمِ والإحتكام . أنا أقرأُ " الإنيادا " في ترجمةٍ جديدة من العام 1961 أدّاها خيرَ أداءٍ ، ألِنْ ماندلباوم ، من جامعة نيويورك سِتِي .
ترجمة الإنيادة إلى اللغة الإنجليزية للمرّة الأولى قام بها جون درايدِن ، 1631-1700 ، وهي ترجمةٌ ممتازة ما زال بمقدورنا أن نستمتع بدقّتِها ولغتِها ، بالرغم من كَرِّ العصور . خذوا الأبيات 789-795 من الكتاب الثاني للإنيادة حين يتلقّى إنياس ويرى رسالةً من شبح زوجته ، كِرْيوسا ( النصّ اللاتيني ) :
iamque vale et nati serva communis amorem.' haec ubi dicta dedit, lacrimantem et multa volentem dicere deseruit, tenuisque recessit in auras. ter conatus ibi collo dare bracchia circum; ter frustra comprensa manus effugit imago, par levibus ventis volucrique simillima somno. sic demum socios consumpta nocte reviso[28] ( النص الإنجليزي بترجمة درايدِن) I trust our common issue to your care.' She said, and gliding pass'd unseen in air. I strove to speak: but horror tied my tongue; And thrice about her neck my arms I flung, And, thrice deceiv'd, on vain embraces hung. Light as an empty dream at break of day, Or as a blast of wind, she rush'd away. Thus having pass'd the night in fruitless pain, I to my longing friends return again * أعودُ إلى النقطة الأساسِ التي اتّخذتُها عنواناً للمقالة ، أعني مديح الخسارة : الإنيادة تتحدّث عن هزيمة طروادة ، على أيدي الإغريق ، الذين استعملوا خدعةً من خدع الحرب ، هي ما نسمّيه اليوم ، حصان طروادة . استطاع إينياس ، الذي خلَعَ فرجيل ، اسمه على القصيدة العظيمة التي استغرقت كتابتُها أحد عشر عاماً ، من عُمرِ فرجيل غيرِ المديد ، أقولُ استطاع إينياسُ الهربَ من طروادة المحترقة ، ليبلغ قرطاجنّةَ ، ثم إيطاليا ، ليؤسِّسَ مُلْكاً ، وبلاداً ، وحضارةً ظلّتْ قائمةً حتى اليوم في إيطاليا الحديثة . أيُّ خسارةٍ هذه التي أنجزتْ ، في ما بَعدُ ، فتحاً ليس مثله فتحٌ ! * سُئِلَ فيدريكو غارسيا لوركا ، شاعرُ غرناطة العظيم ، والحربُ الأهليّة الإسبانيةُ في مستهَلِّها : مع مَن أنت ؟ أجاب لوركا : الشاعرُ مع الخاســـر ! * والحديثُ ذو شجونٍ ، كما يقال . لَكَمْ يَحِزُّ في نفسي ، وأنا أُطِلُّ على المشهد الثقافيّ ، أن أرى مُعْظَمَ المثقفين والمبدعين العرب ، يقفون مع الرابح لا مع الخاسر ؛ مع الغنيّ الفاحش ، لا مع الفقير البائسِ ؛ مع الظالمِ ، لا مع المظلوم . * ولَكم يحِزُّ في نفسي ، أن أرى عاصمةً عربيّةً ، استُعمِرَتْ خديعةً ، بحيلةٍ ليست بعيدةً عن " حصان طروادة " ، تستكين إلى هزيمتِها ، ولا أرى فيها من يرفعُ حتى صوتَه ، لا سيفَه ، احتجاجاً . ليس من إينياس ، في هذا الزمن العاهر ... إذاً ليس من إنيادة ! * لكن الأمور ليست مُفَصّلةً بهذا اليُسْرِ ، على المستعمِرِ والمحتلّ . سوف ينهض إينياس العربيّ ، كالعنقاء . ولسوفَ يبني المدينة الفاضلة ، كما بنى إينياس ، روما ، في مديحٍ عجيبٍ للخسارة !
تورنتو 08.06.2016
|
|||
اخر تحديث الأحد, 26 يونيو/حزيران 2016 17:27 |