القطار ، وما أدْراكَ ! |
القِطارُ ، بالعربية الأصيلة ، يعني قافلة الإبِل ، التي تسير فيها الرواحلُ ، راحلةً إثْرَ أخرى ، في خطٍّ مستقيمٍ . وكما ورد عند ابن منظور في " لسان العرب " : القطارُ أنْ تَقْطُرَ الإبِلُ بعضَها إلى بعضٍ على نسَقٍ واحدٍ .
والحقُّ أنّ حظَّنا ، نحن العرب ، من القطارِ ، ظلَّ متّصلاً بابن منظور ، حتى اليوم . أي أننا لم نُحَقِّقْ منافع القطار ، ومسالكَه ، خطوطاً وتخطيطاً . حتى قطاراتنا القليلة هي بطيئةٌ ، مقايَسةً بقطارات الآخرين . أقرأُ " قطار الشرق السريع " Orient Express لأغاثا كْرِسْتي ، فأستمتع بمشهدِ القطار وعرباته ورُكّابه ، حتى لَكأنني في عالَمٍ مسحورٍ . الدهشة إيّاها أشعرُ بها وأنا أقرأ غراهام غرِين وقطارات مهرِّبيه ومغامريه. وأسافرُ على قطار " اليوروسْتار " تحت الماء ، من لندن إلى باريس وبْروكسل . وقد يأتي يومٌ نسافرُ فيه على قطارٍ طائرٍ . ألسنا نسافر الآن في حافلةِ رِيحٍ ؟ Air Bus... * في العراق ، مدَّ الإنجليز سككَ حديدٍ للإسراع في نقل جنودهم حين احتلّوا البلد . الحكومات المتتالية في هذا البلد لم تُضِفْ خطوطاً يُعتَدُّ بها ، حتى الآن ... الأمرُ مفهومٌ . قبل الحرب العالمية الأولى ، كان بمقدور المرءِ أن يأخذَ القطار من برلين إلى بغداد . وأراد العثمانيّون أن يلمّوا أطرافَ امبراطوريّتِهم المترهلة ، فاستعانوا بالألمان ، في مدّ المراحلِ الأساسِ من " الخطّ الحجازيّ " ، حتى بلغوا الأردنّ ، مروراً بدمشق التي ظلّت تتباهى بــ: " المحطة الحجازية " التي ما زالت قائمةً ، محتفيةً بجَمالها ، وإن لم تَعُدْ ذات قطاراتٍ بعيدة المقصد. لقد دمّر الإنجليز ، بمتفجرات لورنس العرب ، الخطَّ الحجازيّ . وبالرغم من الثراء الفاحش المتأتي من عائدات النفط ، لم تدبّ الحياة في " خطّ الحجاز " ، إلاّ مع عمر الشريف وأوتولي ، سينمائيّاً ! * في أواسط الستينيّات ، كان بمقدور المرءِ أن يسافرَ بالقطارات التي مدَّها الفرنسيّون المستعمِرون ، من تونس إلى المملكة المغربية ، مروراً بالجزائر . أنا سافرتُ بهذا القطار الميمون . اليوم ، توقَفَ القطار عند الحدود الجزائرية المغربية ، في نقطة حدوديّة تُدْعى " زوج بِغال " ! * يقول رفيقي العجيب كارل ماركس بلسانٍ ألمانيٍّ مُبِينٍ : Revolutionen sind die Locomotiven der Geschicht. هذه القولة الكريمة تأتي باللسان العربيّ المُبِين : الثوراتُ هي قاطراتُ التاريخ . * في العام 1963 ، كنت سجيناً في " نقرة السلمان " ، الحِصْن الصحراويّ الذي شيّده الجنرال جْلوب ( أبو حنَيْك) لصدّ غارات الوهّابيّين ، وحبس الوطنيّين . كان الوقتُ عصراً ، حين انفتحت البوّابةُ الكبرى ، ليتدفّقَ حشدٌ مرهَقٌ من عسكريّين ومدنيّين ، تحت حراسةٍ مشدّدةٍ . كان هؤلاء رفاقنا الذين نجَوا ، في شبه معجزةٍ ، من " قطار الموت " . كان القطار ، عرباتِ شحنٍ ، مغلَقةً بإحكامٍ ، كي يموت مَن بداخلِها اختناقاً ، في الرِّحلة الطويلة من سجن بغداد إلى السماوةِ ، التي تمتدُّ منها باديةُ السماوةِ ، التي نكَّبَها المتنبي ذات رِحلةٍ : تركْنا مِن وراءِ العِيسِ نجداً ونَكَّبْنا السماوةَ والعراقا !
تورنتو 14.05.2016
|
|||
اخر تحديث الأربعاء, 22 يونيو/حزيران 2016 12:37 |