عن الكُتّاب والكتابِ والحكْمةِ ... طباعة

سعدي يوسف

أمضَيتُ من حياتي ، وقتَها الأطولَ ، بين سطور الكتاب وصفحاتِه ، بل تعدّى ما أصدرتُه من كتُبٍ ، المائةَ ، عدّاً ...

هكذا آتاني الكتابُ حكمةً ما .

ليس شرطاً أن ما أُوتِيتُهُ من حكمةٍ ، سوف ينفعُني ، أو ينفع الناسَ .

حكمتي هي حكمةُ الحمقى ، لا حكمةُ ذوي الألباب .

ذوو الألباب ، لا تعنيهم حكمتي ، التي تدعو إلى الجهرِ بالقول ، ومناهضة الظلم ، وممالأة الإعتراض ، إذ أن ذوي الألباب هؤلاء معْنيّون بالزائل والزائف من أموالٍ وأعمالٍ ، عارفون بمآكلِ الكتِفِ معرفتَهم بأسمائهم.

قبل يومين ، صُغْتُ ، وأنا في سِنةٍ من النومِ ، حكمةً ، لكنْ باللغة الإنجليزية .

It is preferable not to milk a dead cow.

هذه الحكمةُ تجيء بالعربية كالآتي :

خيرٌ ألاّ يحتلبَ المرءُ بقرةً ميّتةً ...

*

أعني بالبقرة الميتة ، ثقافةَ العرب الراهنة .

*

إذاً ... هاأنذا قد دبّجْتُ ديباجةً .

عجبي !

*

من مِهَنِ الاحتيالِ التي جاء بها الزمانُ الفاسدُ ، مُقاولُ الصحافة والثقافةِ  .

هذا المقاولُ هو أنموذجُ الجاهلِ ومثالُه ،  وهو الغبيُّ ، لكنْ البارعُ في استعمال الهاتف الذكيّ ، والبسمة الكاذبة ، والبدلة الأنيقة . هو أيضاً العارفُ بالمقصف والملهى والنادي الليليّ ذي فتَياتِ المواعيدِ .

*

مقاولُ الصحافة والثقافة ، لا يفقه أمراً من أمورِ الصحافة والثقافة ،  لكنه ينجح بسببٍ من " فهْلوَتِه " في الحصولِ على صفقةٍ يُصْدِرُ بموجبِها ، مجلةً ، أو صحيفةً ، بالعربية أو سواها ، كما ينجح بسببٍ من الفهلوةِ ذاتِها في تأسيس جمعية أو منبرٍ  أو جماعةٍ .

إلاّ أن هذا المقاولَ الأوّلَ ، الجاهلَ بالصحافة والثقافةِ ، سوف يواجه عقَبةً أولى : كيف ينفِّذُ مقاولتَه أو مقاولاتِه ؟

آنَها  يستعين بمقاولٍ ثانويّ ، مثقّفٍ بلا ضميرٍ ، ولا شرفٍ ، ليتولّى المشروعَ .

*

أنا الآنَ أنظرُ من النافذة :

سماءُ لندن ، في هذا الضحى العالي ، مصفّحةٌ بالرصاص . الهواء مبتلٌّ . والعشبُ نضيرٌ .

*

في لندن ، شأنها شأن حواضر المتروبول الأخرى ، يتوالَدُ مقاولو الصحافة والثقافة ، كالفِطْر .

أسرعُ وسيلةٍ للثراء ، أن تحظى بمقاولةِ صحافةٍ أو سلاحٍ ، في هذه الأمّةِ من التجّارِ والمحاربين :

A nation of traders and warriors.

*

في لندن ، وسواها ، عدد من الصحف ، تحمل الواحدة منها ما ينسبها إلى العرب ، وهي ليست من العروبة في شيء.

والمقاولون الثانويّون في هذه الصحف ، هم الأكثر جهلاً ، وبُخلاً ، وفساداً .

إنهم ضد أمّتِهم ، في السياسة والثقافةِ .

يتعالَونَ على ذوي العِلمِ والشرفِ والمبدأ ، ويلعقون نِعالَ المقاولِ الأولِ ، وسادتِه من ذوي البراميل .

*

أحياناً أتساءلُ :

هذه الصحف لن يقرأها أحدٌ ، لا ورقيّةً ، ولا شبكيّة .

كُلفةُ هذه الصحفِ غيرِ المقروءةِ ، فادحةٌ  ، في مُرتبَعٍ مثل العاصمة البريطانية .

إذاً ، ما السببُ في إصدارِها ؟

*

أزعمُ ، بعد مُقامي المديد هنا ، أن السبب ، يتمثّلُ في أن الصحف المشارَ إليها ، تساعدُ في إيجادِ مقرّاتٍ ،

وإدامة كوادرَ ، لدوائرِ معلوماتٍ عائدةٍ إلى البلدان التي هيّأت كلّ المستلزماتِ لإصدار الصحف .

أمّا المقاولُ الأول ، والمقاول الثانويّ ، فليسا سوى بيدقَينِ في لُعبةٍ متّفَقٍ عليها ، بين المتروبول ودوائرِ المعلوماتِ تلك .

*

ألم تسمعوا بحكمة الأحمقِ الذي هو أنا :

It is preferable not to milk a dead cow ?

لندن 05.01.2016