العوّامة 81 طباعة

 سعدي يوسف

في  صيف العام 1958 حللتُ في القاهرة ، قادماً من الكويت، حيث كنت أدرِّسُ في متوسطة الفروانيّة
" الدوغة " سابقاً .
وقصة ذهابي إلى الكويت غريبةٌ :

في العام 1957 ، ذهبتُ سِرّاً إلى موسكو لحضور مهرجان شبيبةٍ عالميّ . وكان السفر بحراً من ميناء اللاذقية السوريّ.
بعد أن انتهى المهرجان وانفضَّ السامرُ وعدنا إلى دمشق ، اكتشفنا أن موظفاً بميناء اللاذقية باع أسماءنا ، نحن الشباب العراقيّين ، إلى سلطات نوري السعيد ببغداد .
اثنان منّا غامرا ، لكن الشرطة العراقية قبضت عليهما .
كان ذلك إنذاراً صريحاً لنا .
لقد تقطّعتْ بنا السبُل !
إلاّ أني كنت أعرفُ قوماً كراماً من آل النِّعمة البصريّين ، يسكنون الكويت . منهم الحاج عبد الكريم النعمة .
اتصلْنا بهم ، فرحّبوا بمجيئنا إلى أن نتدبّر أمورَنا ، وحللنا ضيوفاً عليهم .
كانت الكويت ، آنذاك ، تمور بالنشاط الوطني .
ساعدني خالد المسعود  (تولّى وزارة التعليم لاحقاً ) في الحصول على عمل .
يبدو أنني أطلْتُ !
*
على أي حالٍ ، كنت في القاهرة صيف 1958  قادماً من الكويت التي اشتدَّ قيظُها ، ومن شدّةِ ذلك القيظ ، الذي أرعبَني ، سايكولوجيّاً ، اخترتُ أن أسكن عوّامةً عند كوبري سليمان ، غير بعيد عن جامعة القاهرة . عوّامة النيل تلك تحمل الرقم 81.
صاحبتُها التي تقيم في الطابق الأعلى اسمُها : زينب كابش .
كنت أنام مهدهَداً بموج النيل الوديع .
وكان باعة الخضار والفاكهة  ، يدورون بزوارقهم ، على العوّامات !
*
كان عليّ أن أمدِّدَ إقامتي ، أواسطَ تموز ( يوليو ) .
هكذا ذهبتُ إلى " الـمُجَمَّع " بساحة التحرير .
قال لي الموظف وهو يمدِّدُ إقامتي : يوم ثورتكم ، أيها العراقيّ ، مثل يوم الثورة في فرنسا !
لم أفهمْ . بل ظننتُ أن الرجل يمازحُني ساخراً .
لكني حين عدتُ إلى الساحة والشارع ، انتبهتُ إلى الناس في المقاهي والدكاكين والأكشاك ينصتون إلى المذياع ...
بل سمعتُ كلمتي العراق وبغداد تتردّدان !
قلتُ : لأذهبْ إلى جمعية الطلبة العراقيّين  ، عند " العتَبة " .
حين وصلتُ ، رأيت الدنيا " مولّعة " !
هتافات ولافتات ...
إنها الثورة ، ثورة الرابع عشر من تموز ( يوليو ) !
فلْنَمْضِ إلى سفارة المملكة العراقية ، لنستبدلَ بلوحتِها ، لوحةً خططْنا عليها : سفارة الجمهورية العراقية .
اقتربنا من مبنى السفارة ، فتقدَّمَ إلينا ضابط شرطة شابّ  ، مهنِّئاً ، ثم رجانا ألاّ نقتربَ أكثرَ من المبنى ،
فهو مسؤولٌ عن حماية السفارة .
مذيعةٌ شهيرةٌ  كانت تقدِّمُ " على الناصية "  أجرتْ مقابلاتٍ سريعةً معنا ، وكنت بين مَن قابلَتهم السيدة.
*
عدنا إلى العتبة ، وجمعية الطلبة العراقييّن .
آنذاك كان في الجمعية نوري عبد الرزاق حسين وزوجته لميس العماري ، ونصير الجادرجي ، وطالبُ طِبٍّ من آل الحجّاج بالبصرة ، هو فيصل الحجّاج ( قتلَه البعثيّون في 1963 ) .
*
سأعود إلى عوّامة النيل رقم 81 .
أعبرُ كوبري سليمان ، ماشياً ، ثم أميلُ يميناً  على ممشىً ذي أزهارٍ ، لأبلغَ مستقَرِّي .
وحين يهبط الليلُ ، سوف أنامُ هانئاً ، تهدهدُني أمواجُ النيلِ ، وأحلامُ العودة إلى العراق !

لندن 29.11.2015