بيروت صغيرة بحجم راحة اليد طباعة

بيروت كبيرة بحجم أملٍ مضاع
سعدي يوسف
هذه اليوميات من حصار بيروت 1982 ، التي دوّنها أمجد ناصر ، وأصدرتها " الأهلية للنشر " في عمّان ، هي آخرُ الشهادات ، وربّما أسخنُها ، عمّا جرى قبل ثلاثين عاماً ، في عاصمة عربية محتلّة.
نحن ، العرب ، لم نألف في النصف الثاني من القرن العشرين احتلال عاصمة من عواصمنا .

كان علينا أن ننتظر القرن الحادي والعشرين لنشهد احتلال عمقٍ تاريخيّ في ضميرنا ، حين احتلّ الأميركيون بغداد
ليقيموا فيها ما أقام عسيبٌ .
أقول هذا ، كي نحسّ بالنبض العالي ، الذي اتّسمتْ به الكتاباتُ عن بيروت وحصارها  ، واحتلالها في ما بعدُ .
لكن ما كتبه أمجد ناصر ، مختلف .
إنه يكتب بألفةٍ حتى في أشدّ اللحظات هولاً : اشتداد القصف ، وولادة يارا ، ابنته. لم يكن الرجلُ مبالِغـــاً
عندما يقول إن بيروت صغيرة بحجم راحة اليد  .
كان يريد أن يجعلنا نطمئنُّ إلى صورةٍ من حياة يومية ، فيها من الاعتياد قدْرُ ما فيها من الغرابة : كنّا شجـعاناً ؟ نعم . لكننا أناسٌ عاديّون أيضاً ، ننظر إلى ما حولنا ، وإلى ما فينا ، كما ينظر الناسُ .
بطولةُ العاديّ ؟
أهذا ما أراد أمجد أن يُبْلِغَنا إيّاه ؟
سيّارة الإذاعة مثلاً ، هذه التي مررتُ عليها أكثر من مرة ، لتبادلِ حديثٍ أو مزحة :
في كل لحظة كان من الممكن أن تتطايرَ هذه السيارة الرنّانةُ في الهواء ، بصاروخ إسرائيلي  . لكن أمجد كان هناك . ميشيل . علي . نزيه . غسان ...
كانوا يعيشون ، حياتهم الأليفة ، الحياة التي أمست كثيفةً حتى الخطر.
البطولة هنا .
*
يوميات أمجد ناصر  ، نأت بنفسها عن المبالغة.
*
أستعيدُ الآن الـمَشاهد الأخيرة :
من ساحة أبو شهلا ، غير بعيد عن جسر الكولا ، نقلتنا حافلاتٌ  إلى المرفأ .
هناك كانت السفن التي ستأخذنا إلى النهايات.
سوف نسلِّم سلاحنا الفرديّ .
ونسجل مغادرتنا بأسماء ليست أسماءَنا. لننجرف في عالمٍ قاسٍ ما زلنا ننجرفُ فيه.
كتاب أمجد ناصر ، أغنيةُ مديحٍ خفيضة ، لبطولة ثقافةٍ ، هي ثقافتنا العربية.