بغداد ON / OFF طباعة

في مساءٍ رائقٍ ، يوم العشرين من آذار ( مارس ) 2003 بمدينة أمستردام ، افتتحت منظمة العفو الدولية مهرجانها السينمائي الخامس ، بفيلم ســعد ســلمان ( سعد داود ) بغداد ON/OFF. كانت القاعة الكبيرة ملأى بينما تتخاطف في رؤوس الحاضرين الصورُ الأولى للهجوم على العراق . المسرحُ مهيّـأٌ تماماً لاستقبال الفيلم .

هذا الفيلم الطويل ( ست وثمانون دقيقة ) يُعتبرُ علامةً كبرى في مسيرة سعد سلمان الفنية ، ليس فقط بسبب الطول، وإنما لأن المخرج تجاوزَ ، بشكلٍ مؤكدٍ ، حدودَ الفيلم التسجيلي . كانت محاولاته المبكرة في التجاوز ذات
تحقّـقٍ متواضع : أفلامه عن بيروت وشبام ورامبو وعمر المغربي ، وتُـمْـكنُ الإشارةُ هنا  إلى فيلمه عن شبام.
بغداد ON/OFF، ذو عقدة فنية قديمة ( الطريق ) ، لكنها عقدة قابلة للإستعمال ، ما دامت في الدنيا طرقٌ ،
وما دام البشر يستخدمون هذه الطرق . ومن يسلكون الطريق يريدون أن يصلوا ، هذا هو المنطق السائد ، سواءٌ في هذا الطريق إلى قندهار أو الطريق إلى بغداد . لكن الوصول إلى بغداد مستحيلٌ . إذاً نحن في وضعٍ مثل ( موت
معلن ) . سعد سلمان يعرف أنه لن يصل حتماً ، ونحن معه نعرف ذلك ، لكننا سنظل مشدودين إلى رحلة العبث
الطويلة ذات التضاريس الموجِـعة .
ثلاثة عناصر كان لها الدور الحاسم في إنجاح العمل : البشر ، الطبيعة ، صوت السائق .
الناس في الفيلم ، بالرغم من عنادهم ، مكبّـلون بدائرة المأساة التي لا مثيل لها : المخيمات وفجائع الذاكرة ، حيث أغنيةُ الفرح ذاتها تنضح مرارةً ودمعاً ومفارقةً ( الفتاة التي غنّتْ أغنية حب مصرية ) .
والطبيعة كان لها دورها في جلاء استحالة الوصول : جبالٌ تتلوها جبالٌ ...
السائق ذو الصوت العميق حقاً ، يشير إلى معالم الطريق ، وفي الوقت ذاته يشير إلى معالم الحالة المستعصية والتاريخ والسياسة ، في نبرةٍ من سخريةٍ مريرة . إنه فيلسوف وراء مِـقْـوَدِ السيارة .
في الفيلم لقطاتٌ أعتبرُها شبه درسٍ في السينما الذكية ، منها نحل العسل في أغلفة القنابل ، والأطفال الذين يأكلون من صحن البنت الضاحكة ، والرجل الذي صُـلِمَتْ إحدى أذنيه .
إنه لَـفيلمٌ قاسٍ ، شديدُ الوطأةِ ، لكن ما يحمله صوتُ السائق من رنّــةِ دعابةٍ مستســرّةٍ ، عالجَ هذه القسوةَ بنجاحٍ مرموق .

 لندن 26 / 3 / 2003