ســـعدي يوســـف بعد أن أمســى العراق مســتعمرةً ، بالفعل ، وعلى الطريقة الكلاسيكية جداً ( احتلال عسكريّ دائمٌ ، واستيلاء على الثروات ، وتنصيب عملاء ) ، تجد الثقافة الوطنية نفسَـها في وضعٍ غيرِ مساعِـدٍ في الأقل ، إزاء ثقافة المحتلين ومشاريعهم في الهيمنة الفكرية عموماً ، إضافةً إلى الهيمنة العسكرية والإقتصادية . ومن النافع أن نتابع نماذجَ من المقاومة الثقافية في أرجاء شتى من العالم ، وأن نتعلّـم ، ونتلمّس طريقاً لثقافتنا الوطنية المهددة ، سعياً لتطويرها من ثقافةٍ مهدَّدةٍ بالضمور والإنطمار ، إلى ثقافة تحرير .
في هذا السياق يأتي فرانز فانون . وفرانز فانون ( 1925 – 1961 ) طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي ، من مواليد المارتنيك . عملَ في مستشفى البُـلَـيدة بالجزائر يومَ كانت الجزائر مستعمرةً ، ثم التحق بالثورة الجزائرية ، وصار رئيس تحرير " المجاهد " حين كانت تصدر من تونس ، وفي 1960 صار سفير الحكومة الجزائرية الموقتة في غانا . نُشِـرَ له باللغة العربية كتابه الشهير " معذَّبو الأرض " عن " دار الآداب " كما أتذكر . يرى فانون أن الحكم الاستعماري ، باعتباره شاملاً ، وميّالاً إلى تبسيط الأمور ، يُفلِـحُ بسرعة ومهارةٍ في تمزيق الحياة الثقافية للشعب المغلوب . ويتحقق هذا المحوُ الثقافي عن طريق نفي الواقع الوطني ، عبرَ علائق قانونية تقدمها سلطة الاحتلال ، مبعِدةً المحليينَ وعاداتهم ، مستوليةً على أملاكهم ، ومستعبِدةً الرجالَ والنساءَ استعباداً منهجياً . لكنّ المضطهِدَ لا يستطيع إقناع نفسه بموضوعية غياب الشعب المضطهَد وثقافته . لقد فعل المضطهِدُ كل شيءٍ ليجعلَ الشخصَ المستعمَــرَ يُـقِـرُّ بدونيّـة ثقافته وغرَزيةِ سلوكه ، ويعترف بلاواقعية أُمّــته ، ثم بالطبيعة المشوَّشــة غيرِ المكتملة لبِـنْـيته البيولوجية . إزاء هذه الحالة ، لا تكون ردود الفعل المحلية ذاتَ إجماعٍ ؛ فبينما يظل سواد الناس يتابعون تقاليدهم الراسخة المختلفة تماماً عن تقاليد الحالة الاستعمارية ، ويظل الحرفيّون يتابعون شكليات صناعاتهم ، نرى المثقف يندفع محموماً للأخذ بثقافة السلطة المحتلة ، منتهزاً أي فرصةٍ لانتقاد ثقافته الوطنية ، أو أنه يبالغ في مزايا ثقافته الوطنية بصورة حماسيةٍ سرعانَ ما تنطفيء ، ويخبو نفعُـها . الواقعُ أن الوضع الاستعماري يسبب توقُّفاً للثقافة الوطنية في كل مجالٍ تقريباً . الثقافة الوطنية تحت الحكم الاستعماري هي موضعُ تساؤلٍ ، ينبغي تدميرها بشكل منهجيّ . وهي تمسي ، سريعاً ، ثقافةً محكومةً بالســرِّيّــة . فكرةُ ثقافةٍ سـريةٍ تتلقّـاها فوراً ردودُ أفعال السلطة المحتلة ، مفسرةً الارتباطَ بالتقاليد تمسُّكاً بروح الأمّـة ، ورفضاً للاستسلام . الاستمرارُ في متابعة أشكالٍ ثقافيةٍ محكومةٍ بالانطفاء ، هو نوعٌ من التمسُّك بالوطنية ، لكنّ هذا لن يقدِّمَ كثيراً ، فهو تشبُّثٌ بالنواة الصلبة لثقافةٍ تغدو أكثرَ فأكثرَ ، جامدةً ، ذاويةً ، خاويةً . الوضع الاستعماري ، ذاتُـه ، سيكون المساعِـدَ في التحوّل . فالاستغلال الاستعماري والبؤس والجوع سوف تدفع الناسَ ، أكثر فأكثرَ ، نحو التمرد المكشوف المنظَّـم . الحاجـة إلى اختراقٍ حاسمٍ تأتي بالتدريج ، وبدون أن يُحسَبَ لها حسابٌ ، وهي تأتي ليحسَّ بها معظـمُ الناس . التوترات المستجدة ، وهي من طبيعة الحكم الاستعماري ، ستكون لها نتائجها على الساحة الثقافية . تبلورُ الوعي الوطني سيغيّـر الأساليب والموضوعاتِ ، ويخلق أيضاً جمهوراً جديداً تماماً . في البداية ألِفَ المثقف المحليّ أن ينتج أعمالاً ليقرأها المضطهِــدُ خاصّــةً ، سواءٌ كانت هذه الأعمال لإرضائه أو لاستنكاره . الآن يتوجه الكاتب المحلي بالتدريج إلى بني جِـلدته . من هذه اللحظة يمكننا الحديثُ عن أدبٍ وطنيّ . هنا ، على مستوى الإبداع الأدبي ، تُـتَـبَـنّى المواضيعُ الوطنية الخالصة . قد يمكن أن يسمّى هذا أدباً نضالياً ، بمعنى أنه يدعو شعباً كاملاً للنضال من أجل وجوده كأُمّــةٍ . وهو أدبٌ نضاليٌّ لأنه يصوغ الوعي الوطني ، مانحاً إياه الشكل والتضاريسَ ، مفتتحاً آفاقاً جديدةً لا تُـحَـدُّ . وهو أدبٌ نضاليٌّ لأنه يتحمل المسؤولية ، ولأنه إرادةُ التحررِ معبَّــراً عنها في الزمان والمكان . وعلى مستوىً آخر ، هنالك التقليد الشفاهي : الحكايات وملاحم البطولة والأغاني الشعبية ، التي كانت مستبعَدةً ، أخذت تتغيّــر . فالحكّـاؤون الذين اعتادوا رواية قصص جامدةٍ صاروا يمنحونها حياةً ويعدِّلون فيها تعديلاتٍ تصير أساسيةً بالتدريج . الصراعات يجري تحديثها ، كذلك الأسماء والأسلحة . أمّا " كان يا ما كان في قـديم الزمان " ، فقد استبدل بها : كان ياما كان ، ويكون اليوم ، ويكون بُكرة . والجزائرُ مثالٌ ساطعٌ ، فمنذ 1955 لم تخطيء الإدارة الإستعمارية حين شرعت تعتقل رواةَ القصص الشعبية بصورة منهجية . ومن الممكن أن نلحظَ تأثيرات الوعي الوطني ونهوضه في السيراميك والفخّــار . فالشكلية قد هُجِـرتْ في عمل الخزّاف ، فالجِرار والأقداح والصواني قد حُوِّرَت ، بحذرٍ أولاً ، ثم بوحشيةٍ تقريباً . والألوان التي كانت قليلة تقليدياً لمراعاة قواعد الهارموني التقليدية ، قد ازدادت بصورة واضحة دون أن تثير فضيحةً . لكنّ الاستعماري لا يريد هذا ، إنه يدافع عن العراقة ، فهو لا يفرح للتغيير ، للتحريك ، إنه يريد أن يُبقي الأشياء كما كانت . هذا الأمر يذكِّــرُنا بتطور الجاز بعد الحرب العالمية الثانية . الرجل الأبيض لم يتحمّل تمردَ الجاز ، كان يريد أن يظل الجاز سِــمةَ الزنجي المقهور في الجنوب الأميركي ، المتعتَـع بخمس كؤوس من الويسكي . الأمرُ ذاته ، أي تأثير النهوض الوطني ، تُـمْــكِنُ ملاحظته في الرقص والغناء والطقوس التقليدية . قبل بداية المرحلة السياسية والنضالية للحركة الوطنية ، بإمكان المراقِب المنتبه الإحساسُ بالعزم الجديد واستشراف الصراع المقترِب . ثمّتَ خطأٌ شائعٌ يصعب تبريره ، يتمثل في محاولة إيجاد تعابير ثقافية وإضفاء قيمٍ جديدةٍ على الثقافة المحلية في إطار الهيمنة الاستعمارية . هكذا نصل إلى الرأي الذي قد يبدو للوهلة الأولى منطوياً على مفارَقة : في البلد المستعمَــرِ ، تكون الوطنيةُ الأكثر إطلاقاً ، الأكثرُ بدائيةً وخشــونةً ، هي ، أكثرَ الوسائل حميّـةً وكفاءةً ، للدفاع عن الثقافة الوطنية . فالثقافةُ ، هي أوّلاً ، التعبيرُ عن أمّـةٍ ، عمّـا تفضِّـله هذه الأمة ، عن تابُواتِـها وعوائدها . وفي الوضع الاستعماري ، حيث الثقافة محرومة من مساندة الأمة والدولة ، سوف تذبل هذه الثقافةُ وتموت . إذاً ، شــرطُ وجودها ، هو التحرر الوطني ، وانبعاث الدولة . لكن على الوطنيين القلقين على ثقافة وطنهم ألاّ يراهنوا على الاستقلال وحده . إذ أن تحرير شعبٍ ، شــيءٌ . وأساليب النضال والمحتوى الشعبي لهذا النضال ، شــيءٌ آخر . ويبـدو أن مستقبل الثقـافة الوطـنية وغِــناها ، هما ، أيضاً ، جزءٌ من القِــيَــمِ التي اقـتضت النضال التحرري . لندن 12/5/2005 ـــــــــــــــــ * للاستزادة ، اقرأْ لفرانز فانون : Black Skin, White Masks (1952) The Wretched of the Earth (1961) * تستفيد المادة من خطابٍ ألقاه فرانز فانون في مؤتمر الكتّاب الأفارقة السود ، سنة 1959
|
اخر تحديث الخميس, 08 نونبر/تشرين ثان 2007 10:23 |