من سعدي يوسف
أيّامٌ أربعةٌ ما زالتْ بين يدَيّ ، وأنا في " الأقصُر" .
فجرَ الثلاثاء 28 فبراير ( شباط ) سأعود إلى لندن ، العاصمة الإمبراطورية ، حيث مُقامي .
لستُ متلهِّفاً على العودة إلى أوربا .
ولستُ حزيناً لمغادرتي " الأقصُر " ، فأنا عائدٌ إليها ، في موعدٍ غيرِ بعيد ، لأقيمَ طويلاً ...
*
أستاذي المرحوم الدكتور مصطفى جواد ، كان يقول إن العاميّة المصرية هي الأقربُ إلى الفصحى ، بين اللهجات الدارجة في أرض العرب .
ولأنني جوّابُ آفاقٍ ، مغرَمٌ بالمقارنة ، أجدُ مقالة أستاذي العظيم ، وقد اكتسبتْ بُرهانَها ، بُرهانَها الساطعَ ، في صعيد مصر ، حيث " الأقصُرُ " حاضرةٌ ليس مثلها من حاضرة.
هنا ، لا أستخدم سيارة الأجرة " التاكسي " إلاّ مضطرّاً .
أفضِّلُ الحافلة الصغيرة ، الميكروباص .
والسبب ؟
أريدُ أن أُرهِفَ السمعَ :
النسوة يتحدثْنَ عن أفراحهنّ ومتاعبهنّ . والرجال بأصواتهم الهادرة يتحدّثون عن يومهم وألَمِهم .
في الحافلة الصغيرة ، أظلُّ أتأكّدُ من أطروحة أستاذي ، الدكتور مصطفى جواد ، الذي علّمَ فيصلَ الثاني فصاحةً تليق بالهاشميّين.
*
في البرّ الغربيّ ، كنت أبحث ، مع إقبال ، عن شقّة معقولةٍ نقيمُ فيها طويلاً .
وفي دربٍ مُتْرِبٍ ، كالعادة ، ضحكنا مع أطفالٍ ، وغنّينا مع نسوةٍ ، ودخلْنا شقّةً معروضةً للإيجار .
لقاءُ أصحاب الشقّة كان أهمَّ لدينا من الشقّة نفسِها :
استقبلتْنا سيدة الدار .
ثم جاء سيدُ الدار .
والأطفال.
ونسوة الجار .
والهولندية سابينا التي تجاور أهل الدار منذ سنين سبعٍ .
جاء الشاي ، ودخل أطفالُ الجيران .
كنا في مهرجان للفرح الإنسانيّ افتقدناه منذ حللنا تلك القارة الملعونة : أوربا !
*
حرصتُ ، وأنا في الحاضرة الصعيديّة ، على التشرُّبِ برواءِ الحياة الشعبية ، حياة الناس البسطاء ، أمثالي .
لم أسْعَ إلى لقاء مع " مثقفين " ، فأنا أدرى بالساحة ، أعني أنني لستُ سائحاً .
المرءُ لايكون سائحاً في بلاده .
*
أذهبُ إلى" طِيبة الجديدة " .
سيدة عراقية ، ذات منبِتٍ رفيعٍ ، من أقارب إقبال ، تسكن هناك منذ سنين ، متزوجة من سيّدٍ هناك .
منزل السيدة وسط حقل واسع :
قصبٌ وبرسيم وشعير .
ماعز وبقر .
جاموسة متثائبة .
النسوة جالساتٌ عند أبوابِهن .
رأيتُ سيدةً تنظِّفُ ما بدا لي ملوخيّةً خضراء . سألتُ السيدةَ : أهي ملوخيّة ؟ أجابتني : لا . إنه برسيمٌ للبقرة !
في بيت السيدة العراقية ( زوجها غائب في السعودية ) عرّفوني على رسّامة "طِيبة الجديدة ". جاءتْ بكامل نقابِها . النقابِ الذي لن يُخفي عينيها الجميلتين .
ما ذا ترسُمين يا فاطمة ؟
كل شيء !
*
في شارع الطيّب ، المتفرع عن " المدينة المنوّرة " ، عيادة أسنان.
أذهبُ إلى العيادة كي أُصْلِحَ ما أفسدَ الدهرُ من أسناني .
لكني أسمعُ ، وأستمتعُ :
العيادة كانت مدرسةً للّغةِ العربية ، في أصولِها وتاريخِها وتطوُّرِها .
في أوتيل " لوتس" العامر ، سألتُ البستانيّ عن لون الحشيش .
قال : النجيلةُ تخضَرُّ هنا بالبرد !
*
إذاً ، ها هي ذي لُغتُنا الجميلةُ تعود إلينا ، معافاةً ، على لسان البستانيّ الفصيح !
رحِمَ الله أستاذي ، المرحوم مصطفى جواد !
الأقصُر 24.02.2017
|