من سعدي يوسف
قبل أيّام أتممتُ قراءة روايةٍ تحمل عنوان " نبتةٌ شيطانيّة" Sport of Nature ، لنادين غوردِمَر ( 1923-2014 ) ، التي حازت جائزة نوبل للأدب في العام 1991.
هذه الرواية هي الكبرى بين أعمال نادين غوردمر ( يبلغ عديد صفحاتها حوالي الخمسمائة من القطع الكبير ) .
لقد غبطتُ نفسي على صبرٍ لم أعتدْه .
لكن قصتي مع غوردِمر قديمة ، بل قديمةٌ جداً ، عمرُها ستّون عاماً !
أنا امرؤٌ متطلِّعٌ ، مستطلِعٌ :
في العام 1960 ، ترجمتُ إحدى قصص غورديمَر القصيرة ، هي التي حملتْ عنوان " زئير " Roaring ونشرتُ القصة في مجلة " المثقف " البغداديّة ، الصادرة حديثاً آنذاك. ( ربّما نشرتُ النصّ ذاته في مجلة " الفكر الديموقراطي " بقبرص ) .
القصة تتحدث عن جنوب إفريقيا التي كانت تحت قبضة العنصريّين من البوَير . نادين غورديمر تتحدث عن مدينةٍ يؤرِّقُ هناءةَ أهلِها البِيضِ ، زئيرٌ آتٍ من الغابة ، الغابة الإفريقية ،التي تُعْلِنُ غضبَها المضمَر.
نادين غورديمَر مناضلةٌ شجاعةٌ ، يسارية الهوى ، كانت ذات فِعْلٍ ملموسٍ وخطِرٍ في مسيرة النضال الإفريقيّ .
*
قبل حوالي عشر سنوات ، التقيتُ السيدةَ ، في نيويورك ، آنَ كنّا هناك ، بدعوة من نادي القلم الأميركي ، الذي كان بعهدة سلمان رشدي .
كنا نسكن في أوتيل واحدٍ، وسط بارْك آفِنيو ، ونتحدث طويلاً .
أخبرتُها عن قصتها " زئير " ومآلِها البغداديّ .
كانت سعيدةً .
في ضحى يومٍ رائق ، كنا جالسَين في بهو الفندق ، نواجه الشارع . كان الشارع يضجّ بالبشر ويعِجُّ . هتفتْ نادين غورديمر : الناس يتظاهرون !
خرجتُ إلى الشارع متهللاً . كان الناس في ماراثون نيويورك الشهير. لا مظاهرة ولا هم يحزنون ...
والحقُّ أن صلتي الأدبية بالسيدة ظلت مستمرة ، تغتني بقراءة أكثر وأعمق .
لكن رواية " نبتة شيطانيّة " بهرتْني وأرهقتْني .
كنت قرأتُ رواياتِها ، ومن بينها " قومُ جُولاي " July’s People .
لكني لم أقرأ لها عملاً في مثل جلال هذا العمل ومهابته ، وأعني رواية " نبتة شيطانيّة " .
*
الخيطُ الفنّيّ ، الرفيع ، المــُحْكَمُ ، ( أي الحيلة الروائية ) ، يتمثّلُ في هِلَّيلا ( سأسمِّيها حليلة ) ، الصبيّة اليهودية ، الآبقة ، المارقة .
سوف نلتقي حليلة ، مراهقةً ، منبوذة من أمِّها ، لتكون مع أبيها ، البائع الجوّال ... ثم مع عمّةٍ أو أكثرَ لها . لكنها انجرفتْ مع مغامرة الحياة الكبرى وهي لا تزال في السابعة عشرة .
ولسوف نراها حافيةً على شواطيء شرقيّ إفريقيا مع المنفيّين السياسيّين .
ولسوف تتزوّج ثوريّاً إفريقيّاً أسودَ ، يُقتَلُ في كمين دبّره أمنُ السلطات العنصرية .
المأساة الشخصية صارت عمادَ حياتها ، وتطوّرها السياسيّ .
هكذا سيأخذها العمل السياسيّ من أجل حرية إفريقيا إلى لندن وأوربا الشرقية والولايات المتحدة .
وعبرَ المسيرة الصاخبة ، الخطرة ، تعيش حياةً حرّةً ، لكنها على الحافة دوماً .
حليلة سوف تتزوّج الجنرال !
الجنرال سوف يدبِّر حرب عصابات ، ليكون رئيسَ إحدى جمهوريات إفريقيا الجديدة .
الجنرال يأخذ السلاح من الكتلة الشرقية .
ويأخذ المال من صندوق النقد الدوليّ أيّامَ عبدو ضْيوف !
ستكون " حليلة " السيدة الأولى .
ولسوف تظهر ، في مناسبة رسميّة ، مع ياسر عرفات الزائر ، إلى جانب زوجها ، مثيرةً غضب أهلِها اليهود !
*
الصفحات الأخيرة من الرواية ، توثِّقُ ، بعناية ، ودقّةٍ ، وإخلاصٍ متناهٍ ، الفترةَ الحاسمةَ التي سبقت إعلان استقلال جنوب إفريقيا ، وتسنُّمِ نلسون مانديلا السلطةَ .
*
تقول ناديت غورديمر ما نصُّه :
قد يكون صحيحاً أن الحياة تمضي دائماً – بدون أن ندرك هذا، أو بما ستأتي به اللحظةُ ، وببوصلةٍ غير متاحة للآخرين – نحو لحظةٍما .
دوّت المدافعُ من القلعة .
الوقت ظُهرٌ .
حليلة تراقب العلَم يرتفع بطيئاً ...
وبغتةً
انفتحَ وسيعاً في الريح .
إنه علَمُ الوطن
وطن حليلة !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحوظة : في ترجمة عنوان الرواية إلى العربية ، لجأتُ إلى التأويل لا إلى الحرْفيّة .
تورنتو 15.05.2017
|