سعدي يوسف
كتبَ جراهام غرِيْنْ ، روايتَه " الأميركيّ الهاديء " The Quiet American في العام 1955
وكان ، آنَها ، في سايغون ، يغطِّي أخبارَ الحربِ ، في ما كان يُدْعى الهند الصينيّة .
نُشِرَت الرواية ، في المملكة المتحدة ، أوّلاً ، في العام 1958 ، ثم في الولايات المتحدة ، العامَ التالي.
أُخرِجتْ في فيلمٍ سينمائيّ بالاسمِ نفسِه ، في العام ، 1958 ونالت شهرةً وترحيباً باعتبارِها روايةً ضد الحرب.
والحقُّ أن جراهام غرِين ، في مُجْملِ نتاجِه الإبداعيّ الغزير ، وقفَ إلى جانب الحقّ والعدل والسلام .
وقد ظلَّ أثيراً لديّ زمناً طويلاً ، ويحِقُّ لي أن أغبطَ نفسي لأني قرأتُ الرجلَ كاملاً ، وقدّمتُ كتاباً عنه في لغتي العربية.
*
" الأميركيّ الهاديء " تدور أحداثُها في سايغون ، أيّامَ كانت فيتنام الجنوبيّة ، مستعمَرةً أميركيةً ، مثل العراق الآن .
وتروي وقائعَ عن انقلاباتٍ ، واغتيالاتٍ ، وتفجير قنابل ، كما تتحدث عن مدينةٍ لا يأْمَنُ فيها المرءُ على نفسِه ، حيث الميليشياتُ ذواتُ البزّةِ الموحَّدة تتوالدُ ، كالفِطْرِ ، بوذيّةً ، وكاثوليكيّةً ...
يكتشف فولَرْ أن صديقَه ، الأميركي الهاديء ، بايِل ، رجل الـ C.I.A، في السفارة الأميركية،كان وراءَ انقلابٍ قاده جنرالٌ جلاّدٌ .
بايِل ، نفسُه ، يُقتَلُ في انفجارِ قنبلةٍ ، قد يكون الجنرال نفسُه ، وراءه .
*
كم من أميركيٍّ هاديءٍ في بغداد الآن !
*
من " الأميركيّ الهاديء "
تلك الليلة ، أصرَّ النقيب ترْوان ، على استضافتي في بيت الأفيون ، مع أنه لا يدخن. قال إنه يحبّ الرائحة ، والإحساسَ بالراحة في نهاية اليوم . لكنّ مهنته لا تتيح له الإسترخاء أكثرَ . هناك ضبّاط يدخِّنون ، لكنهم في الجيش - أمّا هو فعليه أن يأخذ قسطَه من النوم.
كنا في مقصورة صغيرة ، وصاحب المحلّ ، الصينيّ ، أعدَّ غلاييننا . أنا لم أدخِّنْ منذ هجرتْني فونغ.
سألته : ذلك الزورق ، هذا المساءَ ، أكان يلحِقُ ضرراً ؟
قال ترْوان : مَن يدري ؟ في تلك المناطق من النهر ، علينا أن نقصف كل ما نراه .
دخّنتُ غليوني الأول . وحاولتُ ألاّ أتذكّر كل الغلايين التي كنتُ دخّنتُها في بيتي . قال تروان : " ما حدثَ اليوم ، ليس الأسوأ بالنسبة لرجلٍ مثلي . كان بإمكانهم إسقاطُ طائرتنا فوق القرية . كانت مخاطرتُنا مثل مخاطرتهم . أنا أكره النابالم . أن تقصف بالنابالم وأنت على علوّ ثلاثة آلاف قدم .أشار بيده إشارةَ يأسٍ :
أنت ترى الغابة تشتعل . والله وحده يعلم ما كنتَ ستراه على الأرض. الشياطين البائسون يُحرَقون أحياءَ، وألسنةُ اللهب تغمرهم كالماء . قال هذا مستنكراً العالَمَ الذي لا يفهم . ومضى يقول : أنا لا أقاتلُ في حرب استعماريّةٍ . أتظنني أفعلُ ما أفعلُ خدمةً لمزارعي " الأرض الحمراء " ؟ أفضِّلُ أن أحاكَمَ أمام محمة عسكريةٍ .
نحن نخوض حروبكم كلّها ، لكنكم تحمِّلوننا ذنوبَكم " .
قلت : ذلك المرْكب ...
قال : نعم أنا أغبطُكَ على وسيلة هربِكَ .
قلتُ : أنت لا تعرف مِمَّ أنا هاربٌ . الحرب لا تعنيني . أنا لستُ متورِّطاً .
- ستتورّط في أحد الأيام .
- لن ...
- أنت ما زلتَ تعْرِجُ .
- لهم الحقّ في إطلاق النار عليّ ، لكنهم لم يفعلوا حتى هذا . لقد كانوا يهدمون بُرْجاً . على المرء أن يتجنّب جماعة الهدم حتى وهو في بيكاديللي .
- في يومٍ ما سيَحدثُ أمرٌ . ولسوف تكون مع طرَفٍ .
- لا . أنا عائد إلى انجلترا .
- تلك الصورة التي أرَيتَنيها يوماً ...
- لقد مزّقتُها . فقد هجرتْني المرأة .
- أنا آسفٌ .
|