سعدي يوسف
في تأسيس الدوَل التي اتّخذت الإشتراكيةَ فلسفةً وتطبيقاً ، سوف يأخذنا التاريخُ إلى معاينة أنموذجَين متفرِّدَين:
الصين
كوبا
وأعتقدُ أنّ لهذا التفرُّدِ اليدَ الطولى في ديمومة الخيار الإشتراكيّ ، في هذين البلدَين ، بينما انهارت منظومةٌ كاملةٌ لما كان يُسمى المعسكر الإشتراكيّ ، وعلى رأسه ( كما كان يقال ) الإتحاد السوفييتي .
ما السبب ؟
الصينيّون اختاروا سبيلهم في تطبيق نظرية ماركس ، أي أنهم أخضعوا ماركس لقراءةٍ محلّيّةٍ :
بدلاً من الطبقة العاملة ، جاء الفلاّحون.
الفلاّحون هم الذين شكّلوا الجسمَ الأساسَ لمسيرة ماو الكبرى .
والسبب بسيطٌ : لم تكن الصين ذات طبقة عاملةٍ يُعتَدُّ بها .
انتفاضة شانغهاي ( الكلاسيكية ) في الثلاثينيّات ، قُمِعَتْ بسهولةٍ ، لتكون درساً بليغاً تعلّم منه الشيوعيّون الصينيّون ، الكثيرَ . ( انظر " الوضع البشري " لأندريه مالرو ) .
*
في كوبا يكاد الوضع ، من الناحية النظرية ، يتماثل مع الخيار الصينيّ في المَـلْمح العام .
أعني في ما اتّصلَ بالطبقة العاملة .
في كوبا ، كما في الصين ، شكّل الفلاّحون ، لا العمّالُ ، بِنْيةَ الحركة الثوريّة ، التي تبنّتْ في ما بَعْدُ ، تسمية " الحزب الشيوعيّ الكوبيّ " ، ربّما بضغطٍ رفاقيٍّ من السوفييت .
*
أهميّة فيديل كاسترو ، النظرية ، والتنظيمية ، هي في أنه تغلّبَ على ما أعتبرُه شِبْه مستحيلٍ ، في التوفيق بين
المتطلّباتِ السوفييتيّة ، والخصائص المحليّة للثورة الكوبيّة .
لقد أطلقَ العِنان لتشَي غيفارا في القارة اللاتينية.
وحافظَ ، هو ، على كوبا ، حرّةً ، مستقلّةً ، اشتراكيّةً حتى هذه اللحظة !
*
على أن هذا ، كلّه ، لن يفي الرجلَ حقّه .
في زعمي أن فيديل كاسترو نجحَ في أن يحفظَ للشعب الكوبيّ ، كيانَه ، وفي أن هذا الكيان لا يقوم على الإيديولوجيا وحدَها ، التي قد تعصفُ بها ريحٌ ما ، وإنْ لم تكنْ هذه الريح عاتيةً .
الكيانُ الذي كان لفيديل كاسترو فضلُ إرسائه الراسخ ، هو ذو مقوِّماتٍ ليس من اليسير أن تخضِدَها عادياتُ الدهر .
من هذه المقوِّمات ، تقويم الشخصية الكوبيّة ، أي الانتقال بها من شخصية التابع إلى شخصية الحُرّ.
معروفٌ أن كوبا الجزيرة ،كانت ، قبل كاسترو ، مَقْصفاً وملهى ، ومُرتبَعَ ما خَدّرَ وأسكرَ .
كانت أرضَ خدمٍ وخدَماتٍ .
أمّا أهلُها ، فهم ضحايا ، سُعَداءُ بما يُلقى عليهم من فُتاتٍ ، ضحايا يجهلون في أيّ مباءةٍ هم .
كاسترو ، أعادَ إلى الناسِ كرامتَهم .
ليس عن طريق الخُطَبِ العصماءِ ، مع أن فيديل كاسترو كان خطيباً مفوّهاً ، يستحوذُ بسهولةٍ على مخاطَبيه.
كاسترو أعادَ إلى الناسِ كرامتَهم ، بالمنجَز الملموسِ :
توفير العمل الشريف .
توفير التعليم الشامل المجّانيّ .
توفير الخدمات الصحيّة المتقدمة .
*
إلاّ أن ما جعلَ الفردَ الكوبيّ ذا شخصيةٍ مرموقةٍ ، هو في شعورِه بأنه يتحدّى .
يتحدّى الشظفَ .
يتحدّى المشقّة .
يتحدّى العوَزَ .
لكنْ ، قبل ذلك كله ، شعورُه بأنه يتحدّى ، في جزيرته الصغيرة ، وبوسائله المحدودة ، مقايَسةً ، أعتى قوّة استعماريّة ، لا تبعدُ عنه أكثر من مائة ميلٍ !
*
سوف تظل حياة الرجل ، فيديل كاسترو ، ولأمدٍ طويلٍ ، موضعَ تأمُّلٍ وأملٍ !
لكنّ للدهر أحكامَه ...
إذْ ذكرَ مَن زاروا كوبا ، أعني العارفينَ منهم ، زمنَ راؤول كاسترو ، أن الأمورَ تعود ، تدريجاً ، سِجِيّتَها الأولى ، أي قبل : 1959
سياحة ، بغاء ، إلخ ...
الآن ، مع رحيل فيديل ، ومجيء تْرامب ...
هل سيعودُ العالَمُ القديمُ إلى جزيرة الحرية ؟
لندن في 26.11.2016
|