سعدي يوسف ليس من سببٍ وجيهٍ في علاقتي المبكرة بالرسّام الآتي من القرن السادس عشر : بْروغِل Bruegel 1525-1569 الفلاّح ، كما يُعْرَف ، ويُعَرَّف ... المصادفةُ المحضُ هي التي جعلت هذا الرجل ، دون سواه ، أو مع سواه ، يحتلّ مكانته في عقلي الباطن ، ويحتلّ مكانه في أعلى جدار السُـلـَّمِ بمنزلي ، في الضاحية اللندنية. ( قبل أيام جاءني يوسف الناصر بعد أن أغلق غاليري آرك بطبعة مكبّرة من اللوحة موضع الحديث هذا )
* عملانِ من أعماله ظلاّ يسكنانني : 1- منظر مع سقوط إيكاروس 2- شتاء لكني ، اليوم ، أحاولُ أن أتحدث عن علاقتي مع العمل الأول . قبل الحديث ، عليّ أن أقدِّم معلومةً ضروريةً تتّصلُ بالعمل الأول . إيكاروس ، هو ابنُ ديدالوس الصانع الأثينيّ الماهر ، الذي استدعاه مينوس ، ملك كْريت ، كي يبني قرب قصر الملك في كنوسوس ( حيث اشتغل شييلمان الآثاري الألماني في حفرياته الشهيرة ) ،المتاهةَ ، اللابرينث ، كي يُحتجَز المينوتور ( نصف إنسان ونصف ثور ) وليدُ زوجة مينوس من سِفاد الثور الكريتيّ ( أساطير الأوّلين ... ) ومثل جزاء سِنِمّار في الثقافة العربية ، سجنَ الملكُ مينوس ، ديدالوس ، في اللابرينث نفسه ... إلخ . أرادَ ديدالوس أن يساعدَ ابنَه ، إيكاروس ، في الفرار من مـحبِِـس كريت ، فأعدَّ له جناحَين ثبّتَ قوادمَهما ، وخوافيهما بالشمع . طار إيكاروس منتشياً ... وظلَّ يُصَعِّدُ في طيَرانه . لم ينتبهْ إلى أن شمع الخوافي بدأ يذوب من حرارة الشمع . وكما تقول العرب : الخوافي قوّةٌ للقوادمِ ... فجأةً وجد إيكاروس أنه يحرِّكُ ذراعَين بلا جناحَينِ . هوى إيكاروس. سقطَ في البقعة التي تحمل اسمه الآن : البحر الإيكاري قربَ إيكاريا وهي جزيرة جنوب غربيّ ساموس ، ساموس التي ذكرَها اللورد بايرون في بيتيه الشهيرَين : Dash down your cup Of Samian wine A land of slaves Will never be mine. وبترجمتي : حَطِّمْ كأسَكَ من خمرةِ ساموس لا أرضى ببلادِ عبيدٍ لي أرضا ... أكاديمية الطيَران اليونانية ، الآن ، تحمل اسم إيكاروس ! * لم أكن أدري أن لوحة " منظر مع سقوط إيكاروس " كانت مادة قصيدةٍ لشاعر الثلاثينيّات العظيم ، أودِن ... قصيدة أودِن عن اللوحة تتماهى مع رأي شهيرٍ له عن الوعي والجماهير ، وهو غير بعيدٍ عن رأي تولياتي القائد الشيوعي الإيطالي العظيم . لقد انتبه أودِن إلى أن الفلاّح قد أدارَ ظهره إلى البحر ، مكتفياً بأن الشمس ساطعةٌ ، وبأنه يواصل الحراثة مشدوداً كالحصان إلى المحراث . لم ينتبهْ هذا الفلاّحُ إلى أمرٍ كان سيُغَيِّرُ العالَم ! * اللوحةُ أمامي الآن . وكما تُقرأُ لوحاتُ المناظر الطبيعية ، عادةً ، تُقسَمُ اللوحة إلى أقسامها الثلاثة : القسم الأول يحتلُّ فيه الفلاّحُ ومحراثه وحصانه ، المساحةَ ، مع ملامح من الساحل. القسم الأوسط : البحر . القسم الأعلى : السماءُ التي تبدو بيضاء لشدّة الوهج . * أين إيكاروس ؟ * في أقصى يمين القسم الأوسط ، تجدُ ذراعاً تنْجُمُ عن الماء : ذراع إيكاروس الذي يغرق ! * أُفكِّرُ الآن : كيف اجتمع بروغل وأودِن على رؤيا واحدةٍ ؟ وبين ضخامة الفلاّح ومحراثه وحصانه ، وخطفةِ ذراع إيكاروس ... ألا نقرأُ واقعَنا التافه ؟ لندن 17/10/2013
|
اخر تحديث الخميس, 17 أكتوبر/تشرين أول 2013 23:08 |